تحقيقات

لبنان على شفير الانهيار الكبير، فهل من امكانية للانقاذ؟

ارشيف خالد عياد

د. ماري ناصيف – الدبس

منذ أسبوعين بالتمام والكمال، وزّعت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، التي يرأسها نجيب ميقاتي، بعضا من التقرير الذي أعدّته شركة “ألفاريز ومارسال” حول مصرف لبنان، استنادا إلى المعطيات غير الكتملة التي أعطيت لها عن المرحلة الممتدة ما بين العامين 2015 و2020. وقد أثار هذا التقرير ردود فعل كثيرة، خاصة بين مكونات الطغمة المهيمنة على السلطة. فحاول كل طرف من أطراف تلك الطغمة الظهور بمظهر البريء من دم الشعب اللبناني المهدور، وتكاثرت المؤتمرات الصحفية ومعها عدد الاخبارات المحوّلة من قبل الأحزاب المستأثرة بالسلطة، تارة إلى النيابة العامة وطورا إلى المدّعي العام المالي، عن الارتكابات التي قام بها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، المتواري عن الأنظار لوحده… في وقت كثرت التسريبات عن أن سلامة استطاع أن يضع، في مكان آمن خارج الوطن، صورا لوثائق تظهر مشاركة العديد من قيادات تلك الأحزاب في الجرائم المالية والنقدية التي ارتكبها، لا بل إصدار بعضها توجّهات لارتكاب تلك الجرائم… والله أعلم، كما يقال…
بكل الأحوال، وبغضّ النظر عمن استفاد أكثر أو سرق أكثر، أو وجّه أو غضّ النظر، لا بد لنا من التوقّف، ولو سريعا، أمام ما آلت إليه الأحوال بعد ما يقارب السنوات الأربع على بداية الانهيار، المسؤولة عنه كل الطبقة الحاكمة، ومعها حلفاؤها الأساسيون، وأولهم الطغمة المالية المصرفية، ليس فقط من أجل تحديد المسؤوليات، بل كذلك من أجل العمل على إيجاد الحلول التي يمكن لها أن توقف الانزلاق نحو الانهيار الشامل وأن تبدأ عملية الاستنهاض التدريجي الذي بدونه لا قيامة للوطن… خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان يحضّر لنا وللشعب الفلسطيني المقيم عندنا من مشاريع استيطانية لمنع تنفيذ حق العودة، من جهة، وتأكيد استيلاء الكيان الصهيوني على ما تزخر به المياه الاقليمية الممتدة من سواحل لبنان إلى كل الساحل الفلسطيني المحتل، ومعه ساحل غزّة المحاصرة، من غاز ونفط، من جهة ثانية.


أولا- في الأسباب التي أدّت إلى الأزمة الخانقة التي نعيشها

تجدر الاشارة، هنا، إلى أن الأسباب الرئيسية للأزمة التي نعيشها اليوم تعود إلى ثلاثين سنة خلت، وبالتحديد إلى ما نتج اتفاق الطائف، ومن بعده عن الانتخابات النيابية التي تمّت في أواخر العام 1992، في ظل توافق على توزيع الحصص – بمباركة أميركية وأوروبية – بين سوريا والمملكة العربية السعودية.

فالتدمير المتعمّد، آنذاك، للقطاعات المنتجة، الزراعة والصناعة، لصالح السياحة والخدمات والاعتماد على الاستيراد، كانا الأساس في توجيه الضربة شبه القاضية للاقتصاد المتأثر من حرب أهلية دامت خمسة عشر عاما والتي رافقها عدوانان صهيونيان، تم الاستيلاء بموجب الأول على الشريط الحدودي اللبناني، وأوصل الثاني القوات المعتدية إلى قلب بيروت وإلى المساهمة في تحديد مؤسسات الحكم فيه.

تضاف إلى ذلك مجموعة من العوامل الداخلية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

– الهندسات المالية التي ابتكرها حاكم مصرف لبنان منذ العام 1993، بموافقة رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري، والتي دفعت بموجبها فوائد ضخمة لأصحاب رساميل خارجية (خليجية بشكل خاص). وإذا ما استندنا إلى تقرير شركة “ألفاريز ومارسال”، فإن تلك الهندسات كلّفت لبنان، لوحدها، 76 مليار دولار، واستفاد منها القطاع المصرفي بحوالي 20 مليارا، بينما تجاوزت الخسائر في الميزانية العامة العائدة لمصرف لبنان الخمسين مليارا… كلها من أموال المودعين التي وضعتها المصارف “أمانة” لدى مصرف لبنان، فتبخّرت لتنتقل إلى جيوب أخرى… هذا، عدا عن الهدر الناجم عن اعتماد سعر صرف ثابت لليرة تجاه الدولار.

– الاستدانة بالدولار، وما نتج عن ذلك من فوائد خدمة الدين العام تخطّت التسعين مليار دولار خلال ما يقارب الخمسة وعشرين عاما، في حين لم يستطع لبنان سداد شيء من أصل الدين الذي يقدّر ب120 مليارا، أي ما يتجاوز 160 بالمئة من الناتج الاجمالي.

– الحرب التي شنّت على الطبقة العاملة اللبنانية وحركتها النقابية التي شرذمت من خلال ابتداع هياكل نقابية فارغة وتفريخ نقابات متعددة للمهنة الواحدة، الأمر الذي أدى إلى تدجين الاتحاد العمالي العام وقيادته.

– ولا ننسى السياسات الزبائنية والتوظيفات خلافا للقانون و لا “سياسة الدعم” التي قدّمت للأزلام والمحاسيب، والتي كلّفت الخزينة، ومعها بعض ما صرف على الخدمات العامة الأساسية، وبالتحديد على الكهرباء التي لا تزال مقطوعة معظم الوقت، ما يقارب الأربعين بالمئة من الدين العام.

صورو ارشيفية/ خالد عياد

ثانيا – في النتائج الكارثية

ما هو الوضع، اليوم، ولماذا نقول بأننا على شفير الانهيار الكبير؟ علما أن المطبلين والمزمرين يتحدثون عن قرب الفرج الآتي من الحفّارة التي وصلت إلى لبنان بمعية شركة “توتال إينرجي” التي تملّكت، مع رديفتها الايطالية ودولة قطر، القسم الأساس من الحقل (البلوك) رقم – 9 الذي اقتطع منه 1240 كلم من المياه الاقليمية اللبنانية لصالح العدو الصهيوني تحت إسم “ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل” (علما أن الدولة اللبنانية لم تعترف بعد بالكيان الذي لا تزال تعتبره العدو الأول).
أولى النتائج الكارثية التي نعاني منها، اليوم، تكمن في تحلل الدولة وأجهزتها وشلل مؤسساتها بدون استثناء: فالانتخابات النيابية، التي تمت على أساس قانون 2018 المفصّل على قياس الطغمة الحاكمة، أتت بمجلس نيابي متوازن بين طرفي النزاع من البرجوازية. لذا، يعيش منصب رئاسة الجمهورية الفراغ التام، ولا أفق لانتخاب رئيس في القريب العاجل. أما الحكومة فتحوّلت إلى تصريف الأعمال، باجتماعات غير مكتملة وبمشاكل لا تعد ولا تحصى، كل ذلك في وقت شل معه مجلس النوّاب على وقع الخلاف حول إسم الرئيس العتيد، وإلى أية جهة سيؤول. والمضحك المبكي هنا أن العديد من الدول الاقليمية التي تتحرك من خلف الستار تدعي جهارا بأنها لا تتدخّل، وأن انتخاب رئيس للبنان هو شأن لبناني داخلي، الأمر الذي بات – في ظل التحلل العام لأجهزة الدولة، بما فيها الأجهزة الأمنية – يرمي بظلاله على الاستقرار الأمني المتفجّر بين الحين والآخر، تارة بين بعض الأحزاب المتخاصمة وطورا داخل المخيمات الفلسطينية، دون أن ننسى التذكير بازدياد معدلات جرائم التحرش والعنف عموما، وصولا إلى القتل المتعمد، خاصة ذلك المستند إلى العنف الأسري.
هذا التحلل نراه أيضا في ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية من كوارث لا تعد ولا تحصى.

فعلى الجانب الاقتصادي، يعيش لبنان نقصا حادا في الموارد الانتاجية التي تؤمن سبل العيش لأكثر من ثمانين بالمئة من أبنائه، إضافة إلى ما أدّى إليه انهيار العملة الوطنية إلى أدنى الدرجات بعد أن تمت “دولرة” الاقتصاد بشكل شبه كامل منذ بضعة أشهر من انهيار المداخيل والأجور (بفعل تلك “الدولرة” وما ترافق معها من انتشار ظاهرة “السوق السوداء”)، وزيادة البطالة والبطالة المقنّعة، وتفاقم هجرة الشباب… كل ذلك أدّى ويؤدي إلى تزايد ظاهرة الفقر المتعدد الأبعاد الذي يؤثر على التغذية، وينتج الجوع في بعض الأحيان. الفقر الذي يشكّل، اليوم، أساس التمييز الاجتماعي بين المواطنين، إن لجهة محدودية الحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية، من صحة وتعليم، أم لجهة محدودية الحصول على الماء والكهرباء والنظافة والطرقات والاتصالات وكل ما يتعلّق بالبنى التحتية… بمعنى آخر، يرتبط الفقر بجميع مجالات التنمية وبكيفية إعادة توزيع الثروات الوطنية بشكل عادل أم لا.
سأتوقف، هنا، عند الدراسة التي صدرت منذ سنتين عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) بعنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان : واقع أليم وآفاق مبهمة”.

صورة ارشيفية/ خالد عياد

تقول تلك الدراسة ما يلي:

– ارتفعت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد بين السكان في لبنان من 42 % إلى 82 %ما بين حزيران 2019 وحزيران 2021، وأصبح الفقر المدقع يطال أكثر من 34 % منهم. وهذا يعني أن مليون أسرة باتت تحت خط الفقر وأن 210 ألف أسرة فقط تعيش بشكل متوازن أو لا تعتبر “فقيرة”.
– نسبة الفقراء بين كبار السن ارتفعت من 44 % إلى 78 %… والغلبة هنا للنساء الفقيرات.
– نسبة الأغنياء عموما هي 10 % من مجموع السكان. وهنا لا بد من إضافة ملاحظة أن الثروات الأساسية محصورة بيد واحد بالمئة فقط من اللبنانيين.

بكل الأحوال، سبق للإسكوا أن تقدمت بدراسة حول أوضاع الأطفال في لبنان، أشارت فيها إلى أن أكثر من ثلث أطفال لبنان لا يحصلون على الغذاء الضروري وينامون بدون عشاء، وأن قسما كبيرا من الأزواج في العائلات الفقيرة يتناوبون على الحصول على وجبة غذاء في اليوم.


ثالثا – في الحلول الآنية والمستقبلية

هذه الصورة القاتمة جدا تظهر أن إيجاد الحلول الناجعة للأزمة ليس سهلا أو قريب المنال، إذ أن البرجوازية التابعة لن تتخلّى بدون قتال عن نظامها التابع المتخلف الزبائني الطائفي والمذهبي، أي أنها مستعدّة للتضحية، مرة جديدة، بالوطن وبالشعب (الذي قتل منه أكثر من مئتي ألف ضحية في الحرب الأهلية الأخيرة) في سبيل الحفاظ على امتيازاتها… خاصة الآن، مع اقتراب الاستفادة من مصادر الطاقة المتواجدة في مياهنا الاقليمية، وبالأخص في ظل غياب أو ترهّل القوى ذات البرامج التغييرية الاستراتيجية.

لذا، لا بد من العمل على مرحلة إنتقالية شعارها الأساسي التركيز على مسألتين إثنتين:

الأولى، وتكمن في تطبيق ما جاء في الدستور الذي نجم عن اتفاق الطائف حول قانون للانتخاب خارج القيد الطائفي ، مع إضافة بندين أساسيين، هما: إعتماد النسبية ولبنان دائرة إنتخابية واحدة، مرفقين مع شرط تخفيض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة.
الثانية، وتكمن في النضال من أجل تطبيق ما جاء في اتفاق الطائف، أيضا وأيضا، في مجال إلغاء الطائفية السياسية والوظيفية، بالتزامن مع طرح مسألة القانون المدني الموحّد للأحوال الشخصية.
يترافق مع هاتين المسألتين إستمرار ملاحقة ومحاسبة كل من عمد إلى سرقة المال العام وأموال المودعين، أو من استفاد من فتات موائد السارقين، إضافة إلى النضال من أجل استعادة الدولة اللبنانية لدورها كصاحبة كل مصادر الطاقة من غاز ونفط، لا شريك لها فيهما، وذلك عبر إلغاء التعديلات التي أدخلت على القانون ذي الصلة بهذ القضية.
أخيرا، لا بد من إعادة النظر بمسألة ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى