مشروع الشرق الأوسط القديم – الجديد.. من ترامب إلى ترامب… وما بينهما
بقلم: د. ماري ناصيف – الدبس
هناك مثل شعبي لبناني يقول “من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب”، أي أن وضع بعض الناس غير قابل للتغيير ولا يرتجى خيرا منهم.
هذا المثل الشعبي ينطبق ليس فقط على دونالد ترامب الذي خبرناه إبان ولايته السابقة، بل كذلك على السياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أيامنا الحالية… ويمكن تلخيص هذه السياسة باولوية دعم الكيان الصهيوني كونه يشكل القاعدة الأساسية (والبعض يقول الولاية الواحدة والخمسين) للامبريالية الأميركية في المنطقة العربية حيث تتركز منابع الغاز والنفط، من جهة، وحيث تقع الطريق الاقصر لنقلهما إلى أوروبا عبر قناة السويس، من جهة ثانية.
الأهداف وتوزيع الأدوار
والولايات المتحدة ترى أن للسيطرة على العالم العربي بواسطة الكيان الصهيوني الكثير من النقاط الايجابية:
فهي، اولا، تؤمن للامبريالية ارباحا طائلة من خلال السيطرة الاحادية (تقريبا) على استخراج النفط والغاز العربي في منطقة الخليج، وكذلك على أسعار البيع، إضافة إلى توظيف القسم الأكبر من البترو- دولار في تطوير الاقتصاد الأميركي، ناهيك عن استفادة شركات الأسلحة الاميركية من بيع منتجاتها لدول المنطقة التي لا تستطيع استخدام تلك الأسلحة الا بإذن من المنتج (وطائرات الايواكس تشكل المثال الساطع على ما نقول).
وهي، ثانيا، تشكّل مخزنا للأسلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة، ولها دور أساس إضافي في المرحلة الحالية يتلخّص بالمساعدة على منع المشروع الصيني المسمّى “طريق الحرير” من الوصول إلى غايته باتجاه الربط بين آسيا وأوروبا، وحتى في أفريقيا حيث يتّسع وجود الموساد ودوره التخريبي (المترافق مع زيادة استثمارات “الشركات” الاسرائيلية التي تخفي الوجه الامبريالي المباشر) بعد أن استطاعت بيجينغ، ومعها موسكو، من تحقيق خرق اقتصادي وسياسي مهم في القارة الأفريقية خلال السنوات العشر الماضية على وجه التحديد.
وهي، ثالثا، وهذا الأهم، تسعى إلى إعادة صياغة الشرق االأوسط، ومن ضمنه المنطقة العربية، بنفس الاتجاه الذي تمّت به سيطرتها الآحادية الجانب على أوروبا، والتعديلات التي طرأت على “القارة العجوز” بعد إسقاط الاتحاد السوفياتي ومعه الحدود بين أوروبا الرأسمالية والمعسكر الاشتراكي السابق، وبالتحديد إعادة تفتيت منطقة البلقان وما يجري اليوم من تمدد لحلف الناتو بهدف حصار روسيا وإضعافها ومعها منظومة البريكس التي ترى فيها واشنطن خطرا على قيادتها الآحادية للعالم… ولا ننسى في هذا المجال دور الكيان الصهيوني في الحرب الأوكرانية – الروسية، الأمر الذي سهّل ويسهّل وصول واشنطن إلى ما تريده من خلال إدارة هذه الحرب منذ البداية.
عودة “الشرق الأوسط الجديد” إلى الواجهة
كل تلك الأمور ترتبط بالطبع بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تعدّدت تسمياته منذ العام 1993 والذي عادت نغمته للترداد على لسان نتنياهو منذ بدء العدوان على غزة ومن ثم على لبنان.
وهذا المشروع، الذي لم يختلف كل الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا منذ ثلاثين عاما على الحكم على تواجهاته الأساسية، يؤكّد اليوم مسألتين:
الأولى، أن واشنطن ستمضي في تنفيذه، ولو أدى ذلك إلى حروب إبادة وجرائم ترانسفير، نظرا للدور الذي يمكن أن يلعبه وضع اليد على شرق البحر المتوسط، وامتدادا الشرق الأوسط حتى حدود الصين وروسيا، من تأمين السيطرة الأميركية على العالم لعشرات السنوات القادمة، إن اقتصاديا أو عسكريا، خاصة بعد تدجين الاتحاد الأوروبي وقبول الأنظمة الرأسمالية في أوروبا الغربية واليابان بإملاءات الادارات الأميركية، إن بقيادة بايدن الديمقراطي أو ترامب الجمهوري الذي سيتسلم مقاليد السلطة في شباط المقبل.
أما الثانية، فتتعلّق بسعي نتنياهو ومن هم وراءه من القيادة الصهيونية العالمية لتوسيع رقعة الكيان الصهيوني عبر الضرب بالقرار 242 عرض الحائط، ووضع اليد نهائيا على غزة والضفة الغربية، بعد أن قرر ترامب أن الكيان الصهيوني بحاجة للتوسّع، كونه لا يشكّل سوى نقطة في بحر العالم العربي المحيط، “فأهدى” هذا الكيان، إبان ولايته السابقة، مدينة القدس الفلسطينية والجولان السوري ومعهما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية، وبعد أن لاقته إدارة بايدن، وقبلهما إدارة أوباما، إلى منتصف الطريق بالسكوت عن توسّع رقعة الاستيطان إلى درجة لم يبق من فلسطين ما يكفي لقيام دولة قادرة على العيش…
علما أن الادارات الأميركية المختلفة لم تكن يوما متحمسة لتنفيذ قيام دولة فلسطينية، وأن هذا الموقف الأمبريالي – الصهيوني لاقى استحسان، بل وتأييد أغلبية الأنظمة العربية التي نراها اليوم ساكتة أمام هول المجازرالتي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلة؛ وهذا ما دلّ عليه بيان القمة العربية والاسلامية الأخيرة الذي أكثر من أفعال “الادانة والتحذير والدعوة”، بالتزامن مع دعم “الجهود المقدّرة” للولايات المتحدة لإنجاز وقف فوري ودائم لإطلاق النار في قطاع غزة (بعد ثلاثة عشر شهرا على العدوان) ومع “مطالبة جميع الدول بحظر تصدير أو نقل الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل”، دون أن يتضمّن أي خطوات عملية فعلية، مثل سحب الودائع من مصارف الدول الرأسمالية ومنع وصول شحنات التي الأسلحة التي تأتي عبر البحر الأحمر إلى ميناء إيلات أو تمر عبر قناة السويس باتجاه المرافيء الواقعة على البحر المتوسط والتي يستخدمها الكيان الصهيوني.
ترامب والسياسات القديمة – المتجددة
لن نتحدّث في هذه العجالة عما كشفه الصحافي الاستقصائي المعروف بوب وودوورد، في كتابه “حرب”، في مجال علاقة بعض الأنظمة العربية بالسياسة الأميركية، وانصياعها أو موافقتها على المواقف الأميركية تجاه العدوان الصهيوني المجرم على غزة ولبنان، ولا كذلك عن الدعم الذي قدمته إدارة بايدن والمواقف الداعمة التي قدمها ترامب إبان حملته الانتخابية ومن ثم بعد فوزه انتنياهو، بما في ذلك إعطاء هذا الأخير ورقة بيضاء للاستمرار في جرائمه من الآن وحتى شباط 2025. فهذا الكتاب أصبح في التداول الواسع.
المهم أن نلفت النظر إلى الفارق غير البسيط بين المواقف المعلنة والأخرى التي كانت تقال في الغرف المغلقة، والتي تدحض سعي الادارة الحالية وتلك التي ستأتي بعد أقل من ثلاثة أشهرلوقف الاعتداءات الصهيونية على غزة والضفة الغربية، وخاصة على لبنان. وقد سبق أن أوضحنا الدوافع والأسباب وراء تمسّك واشنطن بدور نتنياهو بالتحديد وبتوسيع سطوة الصهاينة “المتطرفين” (كما يقال) على كل المنطقة.
ويكفي في هذا المجال أن نذكر بعض الأمثلة والمواقف التي تدعّم وجهة نظرنا القائلة بأن الامبريالية الأميركية، كائن من كان رئيس إدارتها (الذي لا يستطيع الاستفراد أساسا بالقرار، رغم النظام الرئاسي المتبع، بل يخضع لكبار الناخبين والممولين)، لن تتخلّى يوما عن دعم الكيان المحتل والذي يمثل آخر نظام استعماري في العالم.
ولعل الاعلان عن خيار ترامب لمن سيمثل السياسة الخارجية لإدارته هو خير دليل على التوجهات التي ستنفذها هذه الادارة في السنوات الأربع القادمة، والتي سيسعى الرئيس القديم – الجديد، ومن هم وراءه، إلى أن تكون الجزء الثاني من الفيلم الأميركي المسمى “إتفاقية أبناء إبراهيم” (أو بالأحرى أبراهام) الذي نفّذه صهره كوشنيرفي مؤتمر المنامة، ليس فقط من حيث تسريع تطبيع عدد جديد من الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني، بل كذلك من حيث الاعلان غير الماشر أن لا دولة فلسطينية تلوح في الأفق وترافق هذا الاعلان مع دعوة لبنان لتوطين اللاجئين الفلسطينيين عبر إعطائهم كامل حقوقهم المدنية.
كما أننا نلفت النظر إلى ما قاله ترامب بالنسبة للبنان واضح في مضمونه: “عائلاتكم وأصدقاؤكم في لبنان يستحقون العيش بسلام ورخاء ووئام مع جيرانهم”؛ وهذا يعني أن العودة إلى اتفاق 17 أيار، الذي أسقطه شعب لبنان وجبهة مقاومته الوطنية، وإعادة ترسيم الحدود البرية بعد الترسيم الذي تم في البحر (وهنا يلتقي ترامب مع ما حمله معه هوكشتين، ممثل بايدن، من اقتراحات لوقف النار) هو مفتاح الحل الذي يفتح الباب واسعا أمام لبنان للانخراط في “إتفاقية أبناء إبراهيم” وتحويل الكيان المغتصب إلى جزء أساس من المنطقة الشرق – أوسطية القادمة التي ستقوم، كما جاء في كتاب رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق شيمون بيريز، بقيادة “إسرائيل” و”عقلها المدبّر وكادرها الطليعي”، بالاستناد إلى أموال عرب النفط وبسواعد الطبقة العاملة العربية…
هذا ما وقفت المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية بمواجهته، وهذا ما تواجهه المقاومة اليوم في فلسطين ولبنان…
ولذا، رأت الرأسمالية العالمية، تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، وجوب القضاء على كل أشكال المقاومات لهذا المشروع. وهذا ما يأتي ترامب لاستكماله.
فلننتظر… ولنر !
اواخر تشرين الثاني / نوفمبر 2024
(نشر في مجلة الهدف)