تحقيقات

لماذا تشنّ الحرب ليلاً؟

الجوانب النفسية للعمليات القتالية ليلاً .

1. كانت الجيوش وإلى حد قريب من الحرب العالمية الأولى مع بعض الأسثناءات تقاتل نهارا أو بمعنى أوسع أن رحى الحرب منذ بداية صياغتها صراعا مسلحا بين جماعات كانت تدور رحاها على الأغلب في وضح النهار، ويبقى الليل الذي تتوقف فيه المعارك الرئيسية أو ينسحب أثناءه المقاتلون باسلحتهم ومعداتهم إلا من الأماكن الحاكمة مخصصا لمعالجة الجرحى، ودفن القتلى، والأستطلاع، ومعاودة تعبئة الرجال، والتنقل، وإحكام الحصار، ومراجعة القادة لبعض خططهم، ونيل قسطا كافيا من الراحة والنوم أستعدادا لمواصلة القتال صباح اليوم التالي، وهكذا أستمرت الحال منذ آلاف السنين حتى أطلق العرب في سياقات حديثهم عن الحروب وفنون القتال إبان الجاهلية تسمية (أياما) للدلالة التعبيرية على هذا المعنى.

وقائع القتال ليلا

2. لقد بقيت الوقائع القتالية على حالها حتى حلول عصر الآلة واستخدامها في الحرب، ومن ثم أكتشاف أجهزة الرؤيا الليلية، وتوجيه القذائف والصواريخ عن بعد ليتحول الليل مجالا للقتال أسوة بالنهار من الناحية الفنية أو يصبح مكملا له في الأعمال القتالية أو عامل حسم لبعض المعارك حتى أصبح مفروضا على جميع الجيوش الحديثة أن تقاتل بفاعلية ليلا، ولا خيار لها من أستثنائه في عملياتها الجارية حتى تكّوَنَ واقع قوامه:

أ. أن من لم يتعامل مع الظلام، ويجاريه فنيا ونفسيا سوف يخسر المعركة.

ب. أن من يمتلك أجهزة الرؤيا الحديثة، ويجري التدريبات المناسبة، والممارسات الصحيحة، ويتمتع بمعنويات عالية ستترجح كفته في المعركة، في الوقت الذي يكون عدم أمتلاكها أو غير المناسب منها عامل خسارة للطرف المقابل.

3. ومع هذا التطور الفني، والتعبوي في القتال الليلي بقيت تنظيرات القادة، والأستراتيجين العسكريين أو العديد منها في مجاله ماثلة، ووصايا الجيوش وإجراءاتها في القتال الليلي فاعلة حتى الربع الأخير من القرن الماضي الذي وجد فيه القادة العسكريون في ساحة معاركهم أجهزة ومعدات رؤيا وتوجيه تقلل من أثر الظلام فيزيائيا فسارعوا إلى المزاوجة:

– بين الوصايا والإجراءات التقليدية للقتال الليلي.

– وبين سعة أستخدام معدات الرؤيا الليلية.

للأستفادة من عامل الظلام، وكان الأنجليز أول من أتجه لمثل هذه المزاوجة عمليا في حرب فوكلاند عام 1982 عندما أستخدموا تلك المعدات بشكل واسع مع الأخذ بالأعتبار بعض الوصايا والإجراءات ذات الصلة بالتدريب الذي أعطي بحدود ( 50%) من الوقت المتاح للتهيؤ (1).

4. إن التطور الكبير في تكييف الليل لأغراض القتال قريبا من النهار وسعة أستخدام أجهزة التوجيه والملاحة لم تلغِ تماما حتى وقتنا الراهن ذلك الأعتقاد الذي تكلم عنه كلاوزفيتز وأكد عليه من بعد نابليون من أن الهجوم ليلا يكون مناسبا فقط عندما تكون القطعات العسكرية في حالة وهن غير قادرة فيها على تنفيذه نهارا. وإن المعركة الليلية من وجهة نظرهم تحدث فقط في الظروف غير الطبيعية ولغايات محددة (2) أبقتها الجيوش الحديثة حتى وقتنا الراهن معيارا للتنفيذ، وزادت عليها في بعض الجوانب التي تنسجم ومتطللبات القتال في العصر الحالي،

إذ أن المارينز الأمريكي على سبيل المثال مازالت وصاياه لتنفيذ القتال الليلي تؤشر أن اللجوء إليه يتحدد بغايات معينة هي:

أ. لإحداث مباغتة تعبوية.

ب. لإكمال نجاحات متحققة.

ج. لإدامة الضغط على العدو.

د. للتعويض عن بعض النقص الحاصل في إدامة زخم المعركة.

هـ. لمسك منطقة حيوية لعمليات نهارية لاحقة (3).


التغيرات الفسيولوجية والنفسية ليلا

5. إن الحديث عن القتال الليلي يسحب المتحدث او الباحث إلى مواضيع شتى ذات صلة بموضوعه بينها ما يتعلق بالساعة البيولوجية للإنسان والتوترت اليومية التي يمر بها دوريا إذ يوجد في دماغه وبالتحديد في المنطقة المسماة (تحت المهاد) Hypothalamus ما يمكن تسميته مجازا بالساعة البدنية أو البيولوجية التي تقوم بترتيب حدوث العديد من فعاليات الجسم بتوقيتات منتظمة عن طريق الإيعازات العصبية، وإفراز الهرمونات التي تتسبب في تكرار عملية تقلص وأنبساط عضلة القلب مرة واحدة كل ثانية على سبيل المثال.

وما يعنينا في هذا المجال هو التغيرات الفسلجية والنفسية التي تطرأ على جسم الإنسان بصورة دورية كل 24 ساعة وتسمى بالتواترات اليومية Circadian Rythm الذي تزايد إهتمام العلماء في السنوات الأخيرة بدراسة إيقاعها البيولوجي أو الساعة الدماغية التي تنظم حصول هذه التواترات كونها تؤثر تأثيرا مباشرا على كفاءة الأداء التي تتباين عادة ما بين ساعات النهار وحلول اللليل، وقد تركزت البحوث المستفيضة على هذا الموضوع في المؤسسات العسكرية لغرض تحسين الأداء القتالي، والقدرة على التخطيط وأتخاذ القرارات من خلال أكتشاف التوقيت الملائم لتنفيذ وظائف حيوية.

6. إن التواترات اليومية تعرف بأنها نمط التغيرات الجسمية التي تستغرق حوالي 24 ساعة لتكرارها، إذ أن الكثير من وظائف الجسم تعيد نفسها بصورة دورية كل 24 ساعة، وبإيقاع ثابت حتى عند حدوث التغير الجذري في ظروف البيئة، ويعتبر التفاوت اليومي في درجة حرارة الجسم أحد هذه التواترات التي تتغير بصورة منتظمة خلال اليوم الواحد فتصل أوطأ قيمة لها في ساعات الصباح المبكر بحدود 36.8 ْم ثم ترتفع تدريجيا إلى أعلى مقدار لها لتصل ساعات المساء إلى مستوى 37.3 ْم، وتتكرر هذه العملية كل 24 ساعة حتى أفترض أن أنتظام هذه التغيرات كل يوم يعتمد على مؤشرات أو محفزات محيطية أهمها تعاقب الضوء، والظلام بصورة منتظمة.

هذا وأجريت بحوث بهذا الشأن على متطوعين في مختبرات خاصة حجبت عنهم أية إضاءة طبيعية وعزلتهم عن أية وسائل معرفة للوقت كالساعات أو أجهزة المذياع، وتبين في نهاية التجارب:

أ. أن معظم هذه التواترات تضطرب في توقيتاتها لفترة قصيرة ثم تستقر، وتنتظم في إيقاع يستغرق 24 ساعة كذلك.

ب. عندما ترتفع درجة حرارة الجسم مع بداية حلول النهار يترافق هذا الأرتفاع إزدياد تدريجي في كفاءة الأداء الجسماني، والعقلي ليصل أعلى مستوى له مع بلوغ أعلى درجة حرارة أي في الساعة السابعة مساء على وجه التقريب، ثم يبدء بعدها بالإنخفاض مع درجة الحرارة ليصلا معا إلى أقل مستوى لهما خلال ساعات النوم الإعتيادية أي ما بين الساعة الثانية عشر ليلا وحتى الساعة السادسة صباحا.

7. كما أجريت دراسات على أداء الخفراء الليليين بينت نتائجها أن توقيتات أعلى وأقل درجة حرارة تبدء بالتغير في بداية عملهم كخفراء، وأعتمادا على النمط الجديد لساعات الصحو والنوم حتى تأخذ الوضع المناسب خلال أسبوع تقريبا(4). وتعرف هذه الفترة بفترة تكيف، تمتاز في بداياتها بأن أداء الواجبات لا يتطابق مع توقيت أفضل أداء متوقع، بينما تشهد نهاية هذه الفترة تكيفا للتواترات اليومية لتتسق مع توقيتات العمل الجديدة.

8. لقد وجد الليل عموما لأغراض الراحة، والتعويض عن تعب النهار، لكن العسكر الذين يفتشون عن المتيسر من الفرص التي يمكن أستثمارها لأغراض التفوق، وحسم المعارك لصالحهم لا يتوقفون عند هذه الحقيقة حتى أنهم حشدوا جهود الباحثين، والعلماء، لإعانتهم في تذليل مصاعب الرؤيا في الظلام، ونجحوا في النصف الثاني من القرن الماضي حتى تيقنوا تماما من إمكانية إدارة المعركة ليلا، والتواصل مع ما يجري في النهار سعيا وراء الحسم السريع لمعاركهم في الميدان، لكنهم ومع كل هذه النجاحات على المستوى الفني في مجال أجهزة الرؤيا الليلة، لم يتمكنوا من التلاعب حتى وقتنا الراهن بالعوامل الجينية التي أعطت الليل مهام قوامها الراحة، وإعادة النشاط العام.

9. إن عدم النجاح في الساحة الجينية للإنسان، رجح الكفة النفسية للدفع بأتجاه التكيف لمصاعب الظلام، والتعود على أستخدام الحواس، وتحمل أعباء الوهن والتعب الذي يحدث خلاله، وهذه هي الأعمدة أو الجوانب النفسية الأساسية التي يمكن التدخل في موضوعها من قبل القادة والآمرين، والمختصين النفسيين، والمؤسسات التدريبية سعيا من الجميع لإعداد مقاتل قادر على العمل “القتال” ليلا بكفاءة ينبغي أن لا تقل كثيرا عن النهار، وإلا أعطى الفرصة لخصمه أن يتفوق عليه في ساحة معركة يمتد العمل فيها ليل نهار.

الخاتمة

10. إن الجوانب النفسية سواء في القتال الليلي أو في باقي أنواع القتال متداخلة مع غيرها من الجوانب المادية، يصعب فصلها عمليا، فالتدريب على مهنة الميدان أو على نوع من السلاح على سبيل المثال، وعلى الرغم من معطياته المادية ينتج تكيفا ذو معطيات نفسية، وفصلها يأتي عادة لأغراض نظرية تساعد الآمر والمتابع، وحتى المقاتل المدرك لطبيعة القتال على فهمها، وبما يسرع من عمليات التعويد، والتحمل، والتكيف وإن تقتضي الحاجة أحيانا فصلا في عديد من المجالات بين الجوانب المادية، والنفسية لإعداد مقاتل مقتدر في الميدان.

المصادر

1. Drummond, R. J., “The Night Attack–British Style as

Taught and as Practiced in the Falklands.” U.S. Army

Infantry Center and School, December 1982, 1-56.

2. Major walter j. Wierzbicki, usmc 1991, fighting at night.

3. Hart Liddel, B. H. “Development of Night Action.”Marine

Corps Gazette, March 1985, 13-18.

4. مديرية البحوث والخدمات النفسية، العمل النفسي الميداني، العدد 4، 1989

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى