تحقيقات

قمة البريكس والصعود المؤكد

أ.عدنان برجي- مدير المركز الوطني للدراسات/ لبنان

تشكّل موازين القوّة بين الدول والأمم أهم المعايير لتقدير مدى قوة هذه الدول وقدرتها على الصعود والتقدم، او التراجع والانحسار. وموازين القوة منها ما يقاس بالأرقام كالناتج القومي وعدد السكان وأعداد القوى العسكرية، ومنها ما يقاس بالعوامل الثابتة والمؤثّرة كالموقع الجغرافي والموارد الطبيعيّة وأعمار السكان، فان كانوا في عمر الشباب كانت فرص التقدم والتطور أكبر، وان كانوا أقرب الى الكهولة كان الاعتماد على الموروثات وعلى الآخرين هو السائد، ومنها ما هو ظرفي ومستجد كنوعيّة القيادات الحاكمة فلطالما لعبت شخصيّات مؤثّرة واستثنائيّة ادوارًا كبرى على الصعيد العالمي فيما قيادات اخرى كانت في الموقع نفسه لم تستطع ان تقوم بما يذكر.

في عالم اليوم، وفي اللحظة الراهنة، لا ينكر سوى جاهل ان العالم منقسم بين محورين: محور تشكلّه الولايات المتحدّة الأميركيّة ودول الحلف الأطلسي ومجموعة الدول السبع الصناعيّة، وهو محور أعتقد بعضهم انه سوف يبقى ممتلكًا لزعامة العالم وحيدًا للقرن الواحد والعشرين الحالي، سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيّات القرن الماضي، لكنه في تقديرنا، المرتكِز الى تقدير استراتيجيّين وعلماء اقتصاد ومراقبين سياسيّين، هو محور اقرب الى الشيخوخة، وهو بالتالي محور يتراجع دون ان يمتلك شجاعة الإعلان. ومحور ثانٍ تشكلّه الصين والكتلة الآوراسيّة ودول البريكس ومنظمة شنغهاي، وهو محور حديث النشأة، فمجموعة دول البريكس التي تعقد قمتها الخامسة عشر هذا الشهر في عاصمة جنوبي افريقيا، انطلقت في نهاية العقد الأول من هذا القرن. وهذا المحور في تقديرنا وبالارتكاز على مكونّات القوة لديه ، هو المحور الصاعد دون ان يتهوّر في استعجال قطف الثمرات، ودون ان يحرق مراحل الصعود، فهو اذ يخطو بثبات، يعزّز وقع خطواته ويُراكم عوامل القوّة. وقد بدأنا نلحظ تغيير تحالفات دوليّة، وزيادة سريعة في أعداد الدول الراغبة بالانضمام الى دول البريكس ومنظمة شنغهاي، على الرغم من العمليّة الخاصّة للاتحاد الروسي في اوكرانيا، واستمرارها حتى الآن.

وكي لا نبقى في التحليل النظري فقط لنراقب بعض مكونّات موازين القوّة في كل من المحورين:

1- في محور دول البريكس وأخواتها، وبدون الركون الى المفهوم الخاطئ للقوّة الذي يصر عليه بعضهم لأهداف سياسية لكنها ليست علمية، عنيت الركون فقط الى الناتج الداخلي الذي يقتصر فقط على القدرة الانتاجية ويغفل عوامل القوة الأخرى، وفي أحيان كثيرة يقدم أرقامًا وردية خدمة للطبقة السياسية الحاكمة في بلد معين.
فهناك كما أسلفنا الموقع الجغرافي وعدد السكان والموارد الطبيعيّة، وامتلاك التكنولوجيا المتطورة وبخاصة في كل من الصين والهند. ان المساحة الجغرافية التي تعود الى دول المحور الصاعد، تشمل معظم القارة الآسيويّة وقارة افريقيا وأميركا اللاتنينة الوسطى والجنوبيّة. ويقطنها 90% من سكان العالم، وغالبيّة سكانها هم دون سن ال 35 سنة وهم الأقدر على تطوير التكنولوجيا وعالم المعرفة، اي ان الأغلبية من العنصر الشبابي الذي بهم وعليه تقوم الاوطان.

ايضًا في هذا المحور فان كثيرًا من دوله يمتلك مصادر النفط والغاز والمعادن النادرة التي تدخل في تكنولوجيات الذكاء الصناعي. فوفقًا لإحصاءات نشرها موقع وورد ميتر (worldmeter) حتى نهاية العام 2017، فان دول مجموعة اوبك تملك 80.4% من احتياط النفط العالمي، وتصبح النسبة 94% اذا ما اضفنا روسيا والبرازيل والمكسيك . وعلى صعيد الغاز فإن روسيا وايران وقطر والسعودية والإمارات العربية وتركمنستان يملكون ما يوازي 68% من الاحتياط العالمي.
اما في مجال المعادن، فوفقًا لموقع انفستوبيديا(Investopedia)، وقد نشرها الدكتور زياد حافظ في تقرير استراتيجي قدّمه اثناء انعقاد المؤتمر القومي العربي قبل ايام في بيروت، فان قائمة الدول العشر الأوائل الذين يمتلكون أكبر احتياطات المعادن فمعظمها في دول الكتلة الأوراسية وأميركا اللاتينية.

وبالنسبة للزراعة والغذاء فان الصين تأتي في المرتبة الاولى ، تليها الولايات المتحدة الأميركية فالبرازيل ثم الهند وتحتل روسيا المرتبة الخامسة.
لن استطرد في لغة الأرقام والإحصاءات في هذه العجالة وهي متاحة للباحثين الجادّين، لكن لا بد من ذكر بعض عوامل تراجع القوة في المحور الآخر.

2- في المحور المتراجع:

هناك ضعف نسبي في الجغرافيا والسكان، لذلك تعتمد أهم دوله على سياسة الهجرة لتغطية النقص السكاني، الذي سوف يزيد نتيجة اتبّاع الشذوذ الأخلاقي الخطير أولًا على تكوين الأسرة.
وعلى الرغم من المساحة الجغرافية المُعتبرة لكل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا، فان عدد سكان هذا المحور لا يتجاوز 10% من عدد سكان العالم.

وهذه الدول تفتقر الى مصادر الطاقة والمواد الأوليّة التي كانت تسيطر عليها بالقوة من مصادرها. لكن تغيير موازين القوى العالميّة سيدفع بتسريع خروج الدول صاحبة ثروة الطاقة عن الطاعة للأميركيين وحلفائهم، وقد بدأنا نلاحظ ذلك بقوة.

ان سياسة العقوبات الماليّة التي استخدمتها الولايات المتحدة الاميركية بقسوة وبشاعة وإفراط ضد الدول والشعوب، سوف تعجّل في تسريع ايجاد بديل للنظام العالمي المصرفي بما يُضعف من قوة الدولار الى مستويات غير مسبوقة، وفي اعتقادي ان قمّة البريكس الحاليّة سوف تتخذ خطوات أكبر على هذا الصعيد.

نقطة أخيرة أود الإشارة اليها وهي نوعيّة القيادات التي تحكم الدول المؤثّرة في كلا المحوريصنّف رؤساء الصين وروسيا رؤساء تاريخيين كونهما يتمتعان برؤى استراتيجية ويتخذون خطوات جريئة على الصعد الوطنية والعالمية فإن رؤساء الولايات المتحدة الاميركية ورؤساء دول الأطلسي يعتبرون رؤساء عاديين وبعضهم يعاني من مشاكل صحية لها آثارها على قدرتهم في متطلبات الحكم وبخاصة في الظروف الاستثنائية . .

بناء على ما تقدم فإنني أجد في قمة دول البريكس التي سوف تعقد في بريتوريا بعد أيام قليلة، والتي تقدّم الى عضويتّها اكثر من 20 دولة، فيما دول اخرى كثيرة تنتظر قبولها في عضويتها، ارى فرصة جديدة لتأكيد الخطوات الثابتة على طريق الصعود لهذا المحور، الذي يحتاجه العالم ليس فقط من اجل التخلص من الاستعمار والامبريالية وفرض السياسات بقوة التدخل العسكري والمؤمراتي، بل من اجل التخلص من محاولة انهاء القيم الاخلاقية بفرض تشريعات تناقض الفطرة البشرية وكل الدعوات الدينية والقيم الانسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى