تحقيقات

أبناء بيروت في وجه الإجتياح: حين صمدت المدينة بالسلاح الخفيف والكرامة الثقيلة

خالد عبد الرحمن عياد – الصحافة اللبنانية الدولية

في استعادةٍ لمحطة مفصلية من تاريخ بيروت، نعود إلى حزيران 1982، يوم اجتاح العدو العاصمة تحت نيران الحصار والقصف.
ثمانية وثمانون يومًا من الحصار والقصف المتواصل، صمدت خلالها بيروت الغربية باهلها، وشباب أحيائها، ومقاوميها، في وجه آلة عسكرية معادية كانت تهدف إلى إخضاع المدينة وكسر إرادتها.
في هذا المقال، نُعيد تسليط الضوء على وقائع تلك المرحلة، وعلى الدور البطولي الذي لعبه أبناء بيروت، لنُوثّق ما حاولت كثير من الروايات طمسه أو تجاهله.

إهداء يليق بالأبطال

في الذكرى السنوية الأولى لوفاة والدي، المرحوم عبد الرحمن عياد (أبو خالد)، أُهدي هذا المقال لروحه، لا بوصفه توثيق لصمود بيروت فحسب، بل كوعدٍ بالوفاء لرجلٍ كان من بين أولئك الذين حملوا بندقيتهم بيد، وكرامة مدينتهم في اليد الأخرى.

إلى روحه الطاهرة، إلى ابن رأس بيروت، المقاتل بصمت، والواقف بثبات، الذي خاض معارك الشرف في وجه الاحتلال الإسرائيلي، كما خاض معركته الأخيرة مع المرض بكرامة لا تقل صلابة عن أيام النضال.

رحل في 10 حزيران 2024،
لكنه لم يغادر الحكاية…
فبيروت التي أحبها ودافع عنها، لا تزال تنطق باسمه.
والأزقة التي قاتل فيها، ما زالت تحفظ خطواته.

وهذا المقال… هو سطرٌ من سطور مجده.

آثار الحصار والقصف والتدمير في بيروت 1982 (Getty image)

صيف النار: 1982

حين حاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي العاصمة اللبنانية من كل الجهات، كانت بيروت الغربية تبدو كمدينة يتيمة في عيون العالم، لكنها في الداخل كانت كتلة مشتعلة من الكرامة والمقاومة، يقف على جبهاتها شباب أحياءها، الفدائيون، والناصريون، واليساريون، والمستقلون، كعاصفة لا تهدأ في وجه الآلة الحربية الارهابية.

88 يوماً من الجحيم

منذ دخول القوات الإسرائيلية إلى مشارف العاصمة، بدأت أطول وأعنف عملية حصار في تاريخ المدينة الحديث. قصفٌ متواصل من الجو والبحر والبر، وانقطاع كامل للكهرباء والماء والاتصالات، وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين. ورغم ذلك، لم تنكسر بيروت.

على العكس، انبثق من بين ركام الأبنية صوت صارخ يقول: “لن تمرّوا إلا فوق أجسادنا.”

سلاح خفيف، بأس ثقيل المشهد الميداني لم يكن متكافئًا:

على الجهة الغازية: دبابات “ميركافا”، طائرات “إف-16″، سفن حربية ومدافع بعيدة المدى.

وعلى الجهة المدافعة: بنادق كلاشينكوف، قاذفات RPG، عبوات يدوية، وحِيَل ميدانية صنعها شباب بيروت من لا شيء.

قاتلوا في الشوارع والأزقة، من فوق الأسطح وتحت الأرض. كل مترٍ من المدينة كان فخًا للغزاة.

المرحوم عبد الرحمن عياد (ابو خالد)

عندما كانت بيروت جسداً واحداً

ما ميز تلك الأيام أن بيروت كانت واحدة: سُنّة من الطريق الجديدة، شيعة من زقاق البلاط، يساريون من رأس بيروت، فدائيون من صبرا وشاتيلا.

من رأس بيروت، خرجت أسماءٌ قاتلت وصمدت: من آل عياد، آل العيتاني، آل عرقجي، وآل الغلاييني، وغيرهم من العائلات البيروتية المناضلة التي شكّلت نواةً حقيقية للدفاع عن العاصمة.

ومن بين الرجال الذين سجلوا أسماءهم في ذاكرة بيروت بشجاعة وبصمت، يبرز اسم عبد الرحمن عياد (كاسترو)، أحد أبناء رأس بيروت الأوفياء، وأحد وجوه الاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري.

قاتل في الأزقة، ووجّه للمحتل ضربات موجعة، دون أن يطلب مجدًا أو يُعلن بطولة.

“نحن لا نقاتل لنُقال أبطالاً، بل لنمنع سقوط بيروت في العار.”

— عبد الرحمن عياد (أبو خالد)

في 10 حزيران 2024، وبعد صراع طويل مع المرض، وافته المنية.
لكنه رحل كما عاش: واقفًا، عزيز النفس، وبهيبة رجلٍ قاتل من أجل كرامة مدينته.

“أبا خالد لم يكن عابرًا في بيروت… بل كان من أولئك الذين يصونون وجه المدينة في زمن الغياب، ويحفظون كرامتها حين يشتد الحصار. لم يكن اسمه شعارًا، بل فعلًا محفورًا في ذاكرة الأزقة التي ما زالت تتنفس حضوره.”

وكما يروي المناضل منير الصياد (ابو.هيثم) ، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري، في مقابلة صحفية (جريدة السفير – العدد: ١١٤٠٧):

“لولا حاضنة اسمها بيروت، لم تكن عمليات المقاومة ضد إسرائيل لتنفذ. فأهالي بيروت وصمودهم أثناء الحصار، ومن ثم شجاعتهم وتشجيع أبنائهم على القتال في مواجهة الآتين من كوكب آخر، كل هذا بدد الوهم وأكد أن هذه الحاضنة هي التي أعطت قيمة للقتال. ليس جميع أبناء بيروت الملتزمين قاتلوا. هناك أناس عاديون قاتلوا.”

النساء… شريكات الجبهة

– النساء في بيروت لم يكتفين بالبقاء في المنازل.

– بعضهنّ طبخن للمقاتلين تحت القصف.

– أخريات عملن كمُسعفات، ناقلات للذخائر، أو حتى رسائل سرية بين النقاط القتالية.

– وفي حالات كثيرة، وقفن عند أبواب البنايات يصرخن بوجه الجنود الإسرائيليين: “هيدي بيروت، مش أرض فاضية.”

“يا أهالي بيروت، لا تطلقوا النار… نحن منسحبون.”

النهاية… التي لم تكن هزيمة

في أواخر آب 1982، خرجت منظمة التحرير من لبنان ضمن اتفاق دولي. بدا كأن المدينة قد خسرت، لكن الواقع كان أعمق:

– لم تدخل بيروت الغربية إلا بترتيب سياسي، وليس عبر الغزو المباشر.

– لم تُرفع راية احتلال، ولم يستطع العدو أن يزرع في المدينة سوى الحقد على الغاصب.

بل إن ما بقي في الذاكرة الشعبية، ويُروى إلى اليوم، هو تلك اللحظة التي صدحت فيها مكبرات الصوت الإسرائيلية، تقول بوضوح:

“يا أهالي بيروت، لا تطلقوا النار… نحن منسحبون.”

عبارة حملت كل الهزيمة المقنّعة، وردّ عليها أهل بيروت بالصمت… صمت المنتصر الذي لا حاجة له بالاستعراض.

الذاكرة التي لا تموت

اليوم، وبين ركام السنوات، ما زال أهل بيروت يروون تلك الأيام بعيون دامعة وصدور مرفوعة. لا أسماء كثيرة كُتبت، ولا ميداليات عُلّقت على صدور شبابها. لكن الحقيقة تبقى:

“في 1982، دافع أبناء بيروت عن عاصمتهم بإيمان لا يُقهر، وبسلاح لا يصدأ: الشرف.”

على روح والدي، عبد الرحمن عياد (أبو خالد)، ابن رأس بيروت، المقاتل الذي واجه الاحتلال بصلابة، ورحل بشرف، أرجو من كل من قرأ هذا المقال أن يقرأ له الفاتحة، وفاءً لرجلٍ عاش كبيرًا ورحل كريمًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى